النووي السعودي.. حلم مشروع لمستقبل طاقة أكثر إشراقاً وأماناً
تختلف موازين القوى في ظل عالم متغير المصادر مما يدفع كل دولة للتفكير ملياً في غد متعدد المصادر بعيداً عن دخل يعتمد على السلعة الواحدة مما يضع مستقبل الدول والميزانيات في يد سوق متقلب يعتمد على عرض وطلب أكثر من اعتماده على خطط ممنهجة واستراتيجات واضحة، هذا الاختلاف في الموازين والتفكير في مصدر طاقة جديد دفع المملكة منذ سنوات للتفكير في بناء مستقبلها بالطريقة التي تتوازى فيها معطيات الحاضر ومتطلبات الغد، فالحاضر يؤكد أن كميات استهلاك المملكة للوقود الاحفوري لتوليد الطاقة وصلت إلى حوالي مليوني برميل نفط مكافئ باليوم، في حين بلغ تكلفة وقود النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي المستخدم في توليد الطاقة بالمملكة حوالي 200 مليار ريال سنوياً (حوالي 150 مليار ريال تخصص كمعونة وقود لتوليد الكهرباء).
كل تلك الأرقام بالإضافة إلى التزايد في عدد السكان الذي يشكل طلباً متزايداً على الموارد الهيدروكربونية الناضبة والتي ستستمر الحاجة لتوفيرها بشكل متنامٍ دعت المملكة إلى التفكير في البدء باستخدام مصادر بديلة ومستدامة وموثوقة لتوليد الكهرباء وإنتاج المياه المحلاة، والتي بدورها ستقلل من استهلاك المخزون الوطني للوقود الأحفوري وانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري وبالتالي توفر ضمان إضافي لإنتاج الماء والكهرباء في المستقبل ويوفر في الوقت ذاته الموارد الهيدروكربونية، الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة عمرها وبالتالي إبقائها مصدراً للدخل لفترة أطول، وفعلاً بدأت أولى الخطوات في عام 2009، عندما صدر مرسوم ملكي جاء فيه أن "تطوير الطاقة الذرية يعد أمراً أساسياً لتلبية المتطلبات المتزايدة للمملكة للحصول على الطاقة اللازمة لتوليد الكهرباء وإنتاج المياه المحلاة وتقليل الاعتماد على استهلاك الموارد الهيدروكربونية"، هذه الخطوة كانت بداية الإعلان الرسمي لسعي المملكة في الحصول على "طاقة نووية" سلمية تبعها الإعلان عن إنشاء مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة في 2010م والتي تهدف إلى بناء مستقبل مستدام للمملكة من خلال إدراج مصادر الطاقة الذرية والمتجددة ضمن منظومة الطاقة المحلية.
وبعد عام تم الإعلان عن خطط لإنشاء ستة عشر مفاعلاً للطاقة النووية على مدى العشرين عاماً بتكلفة تبلغ أكثر من 80 مليار دولار، تقوم هذه المفاعلات وفق الإعلان بتوليد ما يقرب من 20 في المئة من الكهرباء في المملكة، بينما ستخصص المفاعلات الأخرى -الأصغر حجماً وطاقة- لتحلية المياه.
إن من أهم فوائد الطاقة الذرية مساهمتها في تزايد فرص العمل عالية المستوى، وتأسيس الكفاءات التقنية النووية وتهيئة الشباب السعودي ليصبح قيادياً متمكناً خلال الأعوام القادمة، بالإضافة لذلك فإن الطاقة الذرية ستساهم بتطور هائل في مجال الصناعة للمستقبل ويتضمن ذلك تطوير الهندسة الذرية والأبحاث المتقدمة وتقنية المفاعلات النووية وبحوث دورة الوقود وتطويرها، وستساهم في تطوير العديد من المجالات الأخرى كالطب والزراعة والمعادن وتحلية المياه.
الطاقة الذرية ليست العصا السحرية التي ستعالج كل المشاكل وعيوب الطاقة الحالية فهي ستواجه معضلتين رئيستين الأولى تتمثل في توفير الكوادر الوطنية لإدارة هذه المفاعلات وتتمثل الثانية في التمويل المالي لهذه المشروعات فمشاريع الطاقة النووية تحتاج لرؤوس أموال مرتفعة ولكنها تتميز برخص التكاليف التشغيلية وهو ما تغلبت عليه الدول المتقدمة في المجال من خلال اعتماد اسعار مضمونة وثابتة للكهرباء كما فعلت بريطانيا أو من خلال تمويل بنكي طويل الأمد كما قامت به الصين، اما المعضلة الثانية فقد بدأت المملكة مبكرا في التفكير في حل لهذه المشكلة وذلك من خلال إنشاء مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة وتحديدا ما أسمته "المدينة المستدامة"، المقر المستقبلي لمدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة والتي اعتبرتها الموطن الجديد لقطاع الطاقة الذرية والمتجددة، والتي ستعتبر النواة المحركة للتطوير العلمي والبحثي والاقتصادي لهذه الصناعة الناشئة كونها جهة متخصصة في التمكين لهذا القطاع، فإن المدينة المستقبلية ستشجع الابتكار والإبداع والفرص لمرتاديها وساكنيها وزائريها، لتساهم في ازدهار الأفراد والشركات، وتقع المدينة الجديدة على بعد 25 كم جنوب غرب الرياض ويتلخص الهدف الأسمى لها في تقديم بيئة متكاملة تعزز الجانب الأكاديمي والتجاري وتخلق أسلوب حياة يجذب الكفاءات المحلية والإقليمية والعالمية.
كما وقعت بعضا من الاتفاقيات الثنائية مع عدد من الدول في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، تكون بمثابة إطار قانوني يعزز التعاون العلمي والتقني والاقتصادي بين المملكة وهذه البلدان ويعطي الأولوية العليا للسلامة النووية ولحماية البيئة.
هذه الاتفاقيات مهدت للتعاون في مجالات بحوث الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والتي تشمل تصميم وتشييد وتشغيل وصيانة محطات توليد الكهرباء النووية ومفاعلات الأبحاث، وإنتاج النظائر المستخدمة في الصناعة والزراعة والطب، والتعاون في السلامة والأمن والتأهب لحالات الطوارئ، والتدريب وتنمية الموارد البشرية المتخصصة.
هذه الاتفاقيات تنوعت بين الشرق والغرب فانطلقت من التوقيع على مذكرة تفاهم مع الجانب الكوري حول برامج التعاون النووي لبناء الشراكة الذكية والبناء المشترك للقدرات البشرية النووية والبحث العلمي والتي شهدها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- وريئسة جمهورية كوريا بارك كون، واختتمت مؤخرا بتوقيع رئيس مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة هاشم يماني مع رئيس المؤسسة الحكومية للطاقة الذرية بروسيا سيرجي كير بيناكو اتفاقية للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وذلك في إطار زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع إلى روسيا.
على أرض الواقع، تسارعت الخطا لتأهيل جيل جديد من المهندسين المتخصصين في هذا المجال لتكون طاقة المستقبل بأيدي سعودية خالصة الأمر الذي دفع "البرنامج النووي السلمي" والذي تقوده مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة لإرسال 40 طالب هندسة سعودي من جامعة الملك سعود، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة الفيصل لزيارة الشركات والمفاعلات العالمية المتخصصة في المجال حيث استضافت كهرباء فرنسا (إي دي إف) وأريفا المملوكتين للحكومة الفرنسية والذين أمضوا فترات تتراوح بين ثلاثة إلى سبعة أشهر من التدريب في المنشآت الهندسية ومحطات الطاقة النووية المملوكة للشركتين في فرنسا وألمانيا.
ونفذ المعهد الدولي للطاقة النووية في فرنسا (آي 2 إي إن) عدة زيارات برفقة ممثلين من جامعات علمية فرنسية لجامعات سعودية في المملكة هادفين إلى تنمية العلاقات المشتركة مع الجامعات السعودية وتطوير برامج دراسية مشتركة في مجال العلوم النووية، إضافة إلى ذلك، استضافت كهرباء فرنسا وأريفا العام الماضي عمداء وممثلي جامعات ومؤسسات علمية وبحثية سعودية في فرنسا لجولة مدتها خمسة أيام استطلعوا خلالها القدرات والكفاءات الفرنسية في مجال التعليم والتدريب المهني، حيث أثمرت الجولة باتفاقيات تعاون بين الجهات التعليمية السعودية والفرنسية.
هذا وتستضيف شركة كهرباء فرنسا وأريفا لهذا العام 55 طالب هندسة سعودي مضيفين جامعة أم القرى إلى القائمة لتشمل هذه الدفعة أربع جامعات سعودية، تشمل مهام التدريب لهذا العام: السلامة النووية، والحماية من الإشعاع، المكونات الكهربائية والميكانيكية لمحطات الطاقة النووية، والوقود النووي، وغيرها العديد من مهام وتخصصات التدريب.
الطاقة الذرية هي مصدر آمن وموثوق وخالٍ من انبعاثات الكربون وذات سِجِلّ سلامة مثالي مجرب دولياً ليولد 16% من احتياج العام للطاقة في حين أنه يحتاج للقليل جدًا من الوقود ليولد قدراً كبيراً من الطاقة، ومن المفيد في استخدام الطاقة النووية أنها لا تلوث البيئة ولا تنتج قدر كبير من النفايات وإضافًة لذلك لا يمكن بأي حال أن تتعرض المحطة النووية للانفجار.
هذه التحركات وإن حاول البعض على تصويرها بأنها خارج نطاق السرب الدولي إلا أن المتابع لمواضيع الطاقة العالمية يعي جيدا أنها جزء من حق مشروع ففي الوقت الحالي ووفقًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA يوجد 433 محطة نووية مشغلة في 30 دولة حول العالم و65 مفاعلا جديدا تحت الإنشاء 16 منها تقع في آسيا وأكثر من 400 مفاعل مخطط له واثنان منها في دول الخليج، وقد تم التراجع عن عمليات إغلاق بعض المحطات الموجودة في أسبانيا واليابان خلال عام 2012.
المملكة سارعت أيضا إلى التوقيع على الاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي والتي جرت مراسمها في مقر الأمم المتحدة والتي تتعلق بالحماية المادية للمواد النووية، كما تشير إلى حق الدول في إنتاج الطاقة النووية لاستخدامها للأغراض السلمية، وتجرم هذه الاتفاقية استخدام أي مادة مشعة بقصد إزهاق الأرواح أو التسبب في أذى بدني جسيم أو ضرر في الممتلكات أو البيئة وغيرها.
كما شاركت في قمة الأمان النووي في لاهاي 2014 هذا بالإضافة إلى احتضانها ندوة عن الطاقة السعودية المستدامة.
توجهات المملكة النووية وحقها المشروع في امتلاك هذه التقنية أكدتها خلال كلمتها أمام مؤتمر مراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية 2015 والتي ألقاها في مقر الأمم المتحدة في نيويورك المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى الأمم المتحدة السفير عبدالله المُعَلِّمِي.
حيث أكدت على التزامها بأحكام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ الشرعية الدولية بوصفهما ركيزة أساسية في سياستها الخارجية مشددة على أنها تولي أهمية خاصة لتعزيز دور الأمم المتحدة في جميع المجالات ولا سيما فيما يتعلق بقضايا السلم والأمن الدوليين ونزع السلاح، وذلك إيماناً منها بأن هذه القضايا تمثل وحدة متكاملة لا يمكن بدونها للعالم أن يعيش بسلام واستقرار؛ وأن تعزيز مناخ السلم والأمن الدوليين يتطلب إرادة سياسية صادقة وعزيمة قوية من جميع الدول وعلى الأخص الدول الحائزة على الأسلحة النووية حتى يتم التخلص من الاعتماد على الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل كأدوات للأمن القومي.
وأكدت المملكة على أهمية الجهود التي تحقق غايات عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تبدأ بإدراك ضرورة تبني المجتمع الدولي بأكمله لما هو قائم بالفعل من معاهدات وأطر قانونية وأخلاقية هادفة إلى التوصل إلى عالم خال من السلاح النووي لا سيما في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث إن استتباب الأمن والاستقرار في أي منطقة لا يأتي عن طريق امتلاك أسلحة ذات دمار شامل، إنما يمكن تحقيقه عن طريق التعاون والتشاور بين الدول، والسعي نحو تحقيق التنمية والتقدم، وتجنب السباق في امتلاك هذا السلاح المدمر، وشددت على أنها أيدت الوثيقة الصادرة عن مؤتمر فيينا الخاصة بالآثار الإنسانية للاسلحة النووية.
هذا وأكدت المملكة أمام الأمم المتحدة عن عزمها على تطوير برنامج طموح لاستغلال الطاقة النووية للأغراض السلمية يلبي أقصى قدر ممكن من المعايير الاسترشادية للوكالة الدولية للطاقة الذرية في مراحل التخطيط والإنشاء والتشغيل بالإضافة إلى تأسيس نظام وطني محاسبي للرقابة والتحكم في المواد النووية، وبذل قصارى جهدها في تطوير أجهزة الجمارك ومراقبة الحدود وجميع أجهزة إنفاذ القانون لمنع الإتجار غير الشرعي في المواد الخطرة والكشف عنه.
كل هذه الخطوات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المملكة تراهن على المستقبل من خلال مصادر بديلة للطاقة تضعها في مصاف الدول الأولى في تطوير الطاقة الذرية والمتجددة واستخدامها، كما سيخلق هذا التطوير في مصادر طاقة المستقبل فرصاً جديدة للمواطنين، لتطوير قدراتهم ومهاراتهم وتسخير الوظائف ذات القيمة العالية لهم ولأبنائهم وللأجيال القادمة، وكذلك سيخلق تطوير تلك المصادر فرصاً استثمارية واعدة لشركات القطاع الخاص المحلية والدولية.