دأبت المملكة العربية السعودية على السعي المستمر في تقديم كل الخدمات والإمكانيات التي من شأنها أن تنعكس على راحة ضيوف الرحمن، وتجعلهم يؤدون مناسكهم بيسر وسهولة، وأنفقت أموالاً طائلة تُقدر بميزانيات دول كبرى من أجل خدمة الحجاج والمعتمرين، ولم تتوانَ المملكة يوماً من الأيام عن تسخير كافة الإمكانيات المادية والبشرية لفعل ذلك، والمشروعات الجبارة التي أنجزت ولا تزال خير شاهد.
ومن بين المشروعات التي تستحق الإشارة والذكر بشيء من التفصيل، هو مشروع مقر الإدارات الحكومية بحمى مزدلفة، إذ ستنتقل في حج هذا العام الأجهزة الحكومية التي لا تقدم خدمات مباشرة لضيوف الرحمن من مشعر منى إلى مقرها الجديد، وهو المشروع الذي سيوفر في منى مساحة تستوعب 300 ألف حاج تقريباً.
وتعود فكرة المشروع إلى عام 2011م عندما وجه الأمير نايف بن عبدالعزيز -يرحمه الله- بتشكيل لجنة برئاسته لدراسة نقل الإدارات الحكومية في مشعر منى إلى خارج المشعر، وأنهت اللجنة عملها بتوصية بضرورة نقلها إلى خارج منى نظراً لما تسببه من تضييق على الحجاج وإعاقة للحركة المرورية، وللاستفادة من مواقع تلك الأجهزة في تحويلها إلى إسكان للحجاج، وهذا الحديث يخص تلك الإدارات التي لا تقدم خدمات مباشرة للحجاج، أي أنه لا يشمل المراكز الصحية والمستشفيات، والمواقع الإسعافية والدفاع المدني، وأي إدارة أخرى تتعلق بالحجاج وخدمتهم بشكل مباشر.
وتحولت هذه التوصية إلى عمل جبار على أرض الواقع نفذته وزارة المالية وأشرفت عليه إمارة منطقة مكة المكرمة، وسابق القائمون على المشروع الزمن من أجل إنجازه في وقت قياسي، وتجاوز عدد العاملين فيه ستة آلاف عامل، وأكثر من ألف مُعدة، يعملون ليل نهار لإنهائه وتسليمه في الوقت المتفق عليه، وعلى الرغم من أن مساحة مشروع الإدارات الحكومية بمزدلفة تبلغ أكثر من مليون متر مربع إلا أن الإنجاز فيه تم خلال سبعة أشهر تقريباً، إذ أنجزت المرحلة الأولى عام 2013م ووفرت خلالها الخدمات اللازمة للموقع وانتقلت عدد من الأجهزة الحكومية بشكل تدريجي لتوفير طاقة استيعابية إضافية للحجاج تبلغ مساحة 185 ألف متر، فيما أعلنت إمارة مكة المكرمة قبل أيام اكتمال المرحلة الثانية من المشروع بانتقال 24 جهة تمثل قطاعات عسكرية ومدنية، وهو ما سيوفر 23% من مساحة مشعر منى، سترفع الطاقة الاستيعابية للمشعر بزيادة 300 ألف حاج.
مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس لجنة الحج المركزية صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل الذي صرح ذات يوم بـقوله: "إننا خدام لهذا المكان ولاشيء أهم من خدمة الأراضي المقدسة وضيوفها"، منح هذا المشروع اهتماماً كبيراً، وظل متابعاً له لحظة بلحظة، من قبل البدء فيه وحتى اكتماله بشكل كامل، إذ وجه مع انطلاقة المشروع بأن تكون المباني متوافقة مع المواصفات الحديثة بكل تقنياتها وأعلى معاييرها، وتضمن المشروع خمسة مداخل مجهزة بمبانٍ سكنية ومكتبية، ويتسع المشروع الواقع على مساحة مليون متر مربع لنحو عشرة آلاف موظف، ويضم 3200 مكتب ووحدة سكنية، إضافة إلى 13 مبنى وخمسة مداخل، وخزان مياه سعته 36 ألف متر مكعب يكفي لمدة 15 يوماً، كما يضم مستودعات ومساجد ومهبط طائرات ومحطة تغذية كهربائية.
مشعر منى الذي أنجز هذا المشروع الضخم من أجل زيادة طاقته الاستيعابية هو عبارة عن وادٍ تحيط به الجبال من الجهتين الشمالية والجنوبية، ولا يُسكَن إلا خلال أيام الحج إذ فرغ من السكان وخصصت المساحات للخيام، ويعتبر داخل حدود الحرم إذ يبلغ مساحته 8.16 كلم2، بما فيها السفوح الجبلية، ووادي منى تقدر مساحته بحوالي أربعة كلم2، أي نصف المساحة الكلية لمنى عدا السفوح الجبلية، وقد شملت الطرق والجسور وباقي الخدمات حوالي 40 في المئة من هذه المساحة، وهو ما يعني أن المساحة المتبقية التي أقيمت بها خيام الحجاج في حدود 2.5 كم2، ويقضى الحجاج بمنى يوم التروية، ثم يعودون إلى المشعر صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة بعد وقوفهم على صعيد عرفات الطاهر يوم التاسع من شهر ذي الحجة ومن ثم المبيت في مزدلفة، ويقضون في منى أيام التشريق الثلاثة لرمي الجمرات الثلاث مبتدئين بالجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى.
ونال مشعر منى نصيباً غير عادي من اهتمام حكومتنا الرشيدة، فمع تزايد عدد الحجاج عاماً بعد آخر اهتمت الجهات المعنية بخدمة ضيوف الرحمن في المملكة بتذليل الصعوبات الناجمة عن هذه الحشود المتزايدة، وإتاحة رمي الجمرات الثلاث بشكل مريح وآمن من خلال المشروعات الضخمة.