يُمثل قطار المشاعر نقلة بارزة في تاريخ وسائل النقل خلال موسم الحج، إذ يُعد مشروع القطار من بين أضخم المشروعات التي أنجزتها حكومة المملكة طوال الأعوام الماضية، وعلى الرغم من التطور الذي كانت تشهده وسائل النقل إلا أن القطار اختصر كثيراً من الوقت، وقلص المسافات، إذ سجل خلال الأعوام الأخيرة نجاحاً باهراً في نقل وتسهيل حركة ضيوف بيت الله الحرام، ولعب دوراً ملموساً أمام حركة تنقلات الحجاج بين المشاعر المقدسة عموماً، ومن مخيماتهم إلى جسر الجمرات خلال أيام التشريق.
وعكس مشروع قطار المشاعر اهتمام حكومة المملكة بضيوف الرحمن، والتي تقدم مجهودات كبيرة وتنجز مشروعات عملاقة تنفق عليها ميزانيات ضخمة، هدفها الأول والأخير تأدية الحجاج مناسكهم بيسر وسهولة، ولعل من يقف اليوم في مكة المكرمة أو المشاعر المقدسة يدرك حجم المشروعات التي تنجز بشكل مستمر، وتساهم بشكل واضح في إراحة ضيوف الرحمن.
بين الأمس واليوم
في عهد سابق، كان الحجاج يعانون خلال تنقلاتهم بين المشاعر المقدسة بسبب طبيعة المكان والأعداد الهائلة، رغم أن القائمين على الحج يضعون في كل موسم خططاً مرورية محكمة ومميزة، تساهم بشكل أو بآخر في تقليص حجم المشكلة التي لم يكن هنالك حل للقضاء عليها سوى هذا المشروع، فالحافلات أعدادها بالآلاف، والمساحة ضيقة، وبعض السائقين يخالفون الأنظمة المرورية ولا يلتزمون بها، علاوة على ذلك هناك حافلات تتعطل في الطريق، وتسبب ازدحاماً مضاعفاً، كل ذلك كان له انعكاسات سلبية، تتمثل في بقاء الحجاج داخل حافلاتهم قرابة ست أو سبع ساعات، وهي مدة مرهقة خصوصاً لكبار السن والنساء.
اليوم اختلف الوضع تماماً، وبات الانتقال من مشعر إلى آخر أو من المخيمات إلى جسر الجمرات في قمة السهولة، فمشروع «قطار المشاعر» قلص مدة التنقل من ساعات إلى دقائق معدودة، وبوسيلة نقل آمنة ومريحة، فالازدحام المروري لم يعد له أي وجود، وهو الحال ذاته بالنسبة للتلوث البيئي الذي كانت تسببه الحافلات وبالتحديد الدخان الصادر من عوادمها.
البناء لم يكن سهلاً
لم يكن من السهل بناء سكك حديدية في قمم الجبال، وهو ما جعل المشروع واحداً من أبرز مشروعات السكك الحديدية في العالم بأكمله، فالشركة الصينية لإنشاء السكك الحديدية التي صنعت قطار المشاعر بدأت في تنفيذ المشروع عام 2009م، وأنجزته خلال فترة قياسية، رغم صعوبة المنطقة، إذ لم يستغرق إنجاز المشروع سوى 16 شهراً، لأن أكثر من خمسة آلاف عامل، كانوا يعملون على ذلك ليل نهار، إذ تحولت منطقة المشروع إلى ما هو أشبه بخلية النحل.
افتتح مشروع القطار الذي يبلغ طوال خطه الحديدي 18.2 كم عام 2010م خلال موسم الحج، فكل مشعر يضم ثلاث محطات جهزت كل واحدة منها بمصاعد كهربائية وسبعة مسارات لتقديم الخدمة للحجاج، بالإضافة إلى عدد من البوابات الإلكترونية لتفويج الحجاج إلى المحطات، وتتميز هذه البوابات بتقنية الاستشعار عن بعد للتعرف على حاملي التذاكر التي تباع للشركات والمؤسسات فقط، ولا يمكن بيعها للأفراد لأهداف تنظيمية، وتتوفر أيضاً ساحات للانتظار مزودة بوسائل السلامة وتلطيف الجو تستوعب كل ساحة أكثر من ثلاثة آلاف حاج.
المهمة المستحيلة
المدير العام لمشروع مكة للشركة الصينية لإنشاء السكك الحديدية هاو قوي لين قال عن قطار المشاعر: «المشروع أدمج معايير مختلفة في العالم، المعيار الأميركي في الهندسة الهيكلية، والمعيار المحلي السعودي في بناء المساكن الطرق، والمعيار الأوروبي في نظام التشغيل، واستغرق لمشروع بشكله الحالي ثلاثة اعوام من التصميم إلى التشغيل، ومع ذلك من بين 22 شهرا ًمن توقيع العقد إلى التشغيل الرسمي، باستثناء شهر رمضان والحج والممارسات الدينية والعادات المحلية وتأثير درجات الحرارة المرتفعة، استغرقت مدة البناء الفعلية 16 شهراً فقط، رغم التحديات الكثيرة التي واجهناها وطبوغرافية الأرض، انجزت «المهمة المستحيلة» بفضل القيادة العلمية والإدارة الصارمة وقوة العمل الجماعي».
وحصلت وزارة الشؤون البلدية والقروية على جائزة «فيديك» العالمية، وذلك لتنفيذها مشروع قطار المشاعر المقدسة، والذي تم اختياره من قبل منظمه الاتحاد الدولي للاستشارات الهندسية «فيديك» من بين أفضل 24 مشروعاً على مستوى العالم خلال الـ100 عام الماضية، وذلك لتميز المشروع ومساهمته في تحسين ظروف الحياة، كما فاز مشروع قطار المشاعر المقدسة (الخط الجنوبي) ضمن منشأة الجمرات بجائزة «فرانس إيدل مان أوارد» بالولايات المتحدة الأميركية لأفضل البحوث التطبيقية والتشغيلية.
تسع محطات رئيسية
القطار «المعجزة» يتنقل بين تسع محطات رئيسة في عرفات ومنى ومزدلفة، يمر بثلاث محطات مختلفة في مشعر عرفات، ويمر بعدها بثلاث محطات أخرى في مزدلفة، وبعد ذلك يتوقف في المحطة الأولى في أول مشعر منى، ثم في وسطه، فيما تكون محطته الأخيرة عند الدور الرابع في منشأة جسر الجمرات.
17 قطاراً مجموع قطارات المشاعر المقدسة، ويتكون القطار الواحد من 12 عربة مكيفة، تحتوي كل عربة على خمسة أبواب بما مجموعه 60 باباً من كل جهة، لصعود ونزول الحجاج دون عناء وزحام، وتستوعب كل عربة 250 حاجاً، 50 منهم جلوساً و200 وقوفاً، بالإضافة إلى عربتين أمامية وخلفية لتشغيله إذ يسير في الاتجاهين دون الحاجة إلى تعديل القاطرة.
يعتبر قطار المشاعر من أطول القطارات في العالم فطول العربة الواحدة يبلغ 25 متراً، وينقل في الساعة الواحدة 72 ألف حاج وهي اعلى طاقة استيعابية لقطار في العالم، بما مجموعه نصف مليون حاج كل ست ساعات تقريباً، بسرعة تتراوح بين 80-120 كم في الساعة، ولا تستغرق الرحلة الواحدة بين المشاعر المقدسة سوى بضع دقائق، في وقت كان الحاج يحتاج إلى الساعات من أجل الوصول إلى وجهته، إذ تستغرق الرحلة من عرفة إلى منى 13 دقيقة، ومن عرفة إلى مزدلفة سبعة دقائق، ومن مزدلفة إلى منى تسعة دقائق.
أنظمة آلية للتشغيل
القطار الذي يعمل دون سائق باستخدام أنظمة آلية للتشغيل بتحكم من مركز التشغيل والمراقبة، ينقل أكثر من 3500 حاج في الرحلة الواحدة، ويبلغ عدد الحجاج المستفيدين منه في العام أكثر من نصف مليون حاج، ومساره المرتفع عن الأرض الذي يتراوح بين تسعة أمتار و45 متراً عند الجمرات، تم إنشاؤه بأرقى المواصفات على أعمدة خرسانية في الجزيرة الوسطى للطريق، وتم بناؤه بهذه الطريقة لكي يستفاد من المساحات الأرضية في نصب خيام الحجاج.
مشروع قطار المشاعر درب 27 شاباً سعودياً على قيادة القطار، بعد دورة تدريبية استمرت ستة أشهر، منها خمسة أسابيع في مقر الشركة المشغلة للقطار بماليزيا، وبقية الدورة في مكة، ولجأ القائمون على المشروع إلى تدريب وتطوير وتأهيل وإكساب الشباب السعوديين الخبرة العملية في قيادة قطار المشاعر من خلال تواجدهم فيه مع سائق الشركة المشغلة في خطوة تهدف إلى توظيف هذه الوظائف.
70% نسبة التوطين
لا يمكن تجاهل مشروع ضبط الحشود بمحطات قطار المشاعر المقدسة، الذي يهدف إلى ضبط وفرز وتنظيم حركة الحجاج في المسارات المؤدية إلى بوابات محطات القطار، وفرز حملة التذاكر على بوابات القطار، وضبط وتنظيم حركة الحجاج أسفل محطات القطار، وتسهيل انسيابيتهم للصعود إلى ارصفة محطات القطار عبر الرامبات والمصاعد والسلالم، وحماية اسوار وبوابات المحطات وطريق رقم 3 بعرفات، ومنع الافتراش داخل المحطات. وتنفذ هذا المشروع شركة سدك لإدارة الحشود البشرية المتعاقدة مع الشركة الماليزية (برازارانا الماليزية)، وتحت إشراف هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة، وقامت الشركة بتدريب وتوظيف حوالي 4500 موظف للقيام بأعمال ضبط الحشود في محطات قطار المشاعر المقدسة بعقد موسمي لحج هذا العام بنسبة توطين بلغت 70%، كما تم توظيف 1600 شاب، مهمتهم مراقبة التذاكر قبل وصول مجموعات الحجاج إلى المحطات، وفرزهم بعيداً عنها.
تطبيق لإدارة الحشود
في هذا العام، أطلقت هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة أول تطبيق «برنامج ذكي» يتم تنفيذه في الحج لربط الحجاج بمركز السيطرة على الحشود بقطار المشاعر المقدسة، وذلك بهدف تنظيم تنقلاتهم من المخيمات وحتى وصولهم إلى القطار، وفق جداول تحركاتهم الزمنية، وجاءت هذه الخطوة إنفاذاً لتوجيهات مستشار خادم الحرمين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بتسخير التقنية لخدمة ضيوف الرحمن.ويعمل التطبيق بنظام (IOS) وهو بمثابة حلقة الوصل بين قادة أفواج الحجاج وغرفة التحكم الخاصة بمركز السيطرة على الحشود ورد مواقعهم في المخيم وتحركهم، ويحتوي التطبيق على الجدول الزمني لتفويج الحجاج، كما يتيح الفرصة أمام الجهات ذات العلاقة للاستعداد للتفويج بحسب الجدول الزمني المحدد لكل فوج، وتم تزويد قادة تفويج أكثر من 311 ألف حاج بأجهزة محمولة متنقلة تحتوي على التطبيق، وتتصل بخدمة بغرفة تحكم القطار ما يسهم في تسجيل ومتابعة الرحلة، ومراقبة كثافة الحشود منذ التحرك من المخيم وحتى بلوغ المحطة المحددة لكل فوج.