شهدت رحلة البشرية لاستكشاف أسرار الفضاء تطورات غير مسبوقة وقفزات كبيرة خلال عقود قليلة من الزمن نقلت المعرفة الإنسانية إلى أبعاد جديدة، وأفرزت ابتكارات واختراعات ما زال البشر يكتشفون فوائد جديدة لها في حياتهم اليومية.
وبعدما اقتصر الأمر على استكشاف القمر، ينطلق الطموح البشري إلى محطة جديدة، بعدما دخلت العديد من الدول في ركب العالم الساعي لاستيطان الفضاء، ومن غير المستغرب أن يشهد العام المقبل إطلاق رحلات استكشاف استثنائية نحو الفضاء، ولن يقتصر ذلك على كوكبي المريخ أو عطارد، بل سيشمل اثنين من الكويكبات أيضاً، إضافة إلى الشمس!
ويأتي هذا التطور استكمالاً لثلاث بعثات إلى القمر، فضلاً عن غيرها من البعثات نحو كواكب أخرى مثل الزهرة والمريخ والمشتري، ويضاف إلى هذا السجلّ الحافل عدد آخر من الاستكشافات التي ما زالت تقدم ثروة من البيانات العلمية، مع أدلة مثبتة على تحقيق اكتشافات علمية وتطوّر مهم في فهم الكون، مثل بعثة "كاسيني" الشهيرة إلى زحل.
واليوم، تساهم العديد من الجهات والبعثات الاستكشافية في رسم مشهد السباق إلى الفضاء، لكنه سباق من نوع آخر يغلب عليه التعاون لا المنافسة، ولا يعنى بفرض السيطرة على كواكب أو أجزاء منها التزاما بمعاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 التي ترفض أي ادعاء بالسيادة خارج الكوكب.
يترجم هذا التعاون الدولي في مجال الفضاء، بعدد من الأمثلة، من ضمنها "محطة الفضاء الدولية"، المشروع المشترك الذي يجمع بين وكالات الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوروبا واليابان وكندا، حيث سيتم هذا العام تنفيذ خمسة بعثات استكشافية تضم سبعة روّاد فضاء من روسيا، وثمانية من "ناسا" ورائد واحد من كلّ من اليابان وأوروبا وكندا.
ومن الأمثلة الأخرى شراكة "وكالة استكشاف الفضاء اليابانية" مع "وكالة الفضاء الأوروبية" في مهمة إلى كوكب عطارد تتضمن رحلة مسبار "بيبيكولومبو" الجريئة داخل النظام الشمسي على مدى سبع سنوات.
كما تتعاون "وكالة الفضاء الأوروبية" مع وكالة "ناسا" في مشروع المركبة المدارية الشمسية "سولار أوربيتر" Solar Orbiter، وهي المهمة التي تسعى لفهم كيفية نشوء الهالة أو الغلاف الخارجي للشمس، وستقوم وكالة "ناسا" بتوفير مركبة الإطلاق وأجهزة وأدوات الاستشعار للمهمة التي ستنطلق من كيب كانافيرال في ولاية فلوريدا الأمريكية في شهر أكتوبر 2018.
ويتوقع إطلاق "ناسا" بعثة مستقلة، هي المسبار الشمسي "باركر سولار بروب" خلال العام الحالي بهدف دراسة تدفق الطاقة الذي يؤثر على الرياح والهالة الشمسية، وهذه مجرد واحدة من مهمات "ناسا"، إلى جانب "أوزيريس-ريكس" التي تقرّر لها دراسة الكويكب "بينو 101955"، وبعثة "إنسايت مارس لاندر" التي ستزور الكوكب الأحمر.
من جانب آخر، تعمل "وكالة استكشاف الفضاء اليابانية" على المضي وحدها في مهمة من هذا النوع عندما يتوجه الكويكب "هايابوزا2" لملاقاة الكويكب "ريوغو 162173". كما تستثمر الهند والصين بشكل كبير في هذا القطاع، وتسعيان هذا العام إلى إثبات مكانتهما كدولتين رائدتين على مستوى العالم، عبر بعثات للهبوط على سطح القمر. وفي هذه الأثناء، تنشط دول أخرى عديدة مثل سنغافورة، وباكستان وكوريا الجنوبية في إطلاق الأقمار الصناعية.
وبعيداً عن التعاون الحكومي، وبعد ثلاث سنوات من إلغاء برنامج مكوك الفضاء الأمريكي، يشهد القطاع الخاص منافسة حامية أيضاً؛ حيث حظيت "بوينغ" وشركة إيلون مَسك "سبيس إكس" بعقود ضخمة بمليارات الدولارات من وكالة "ناسا" لنقل روّاد الفضاء إلى المحطة الفضائية الدولية.
وتخوض شركتا "بوينغ" و"سبيس إكس" سباقاً آخر لإطلاق رحلات تحمل المسافرين إلى مدار حول الأرض، وعلى صعيد نقل روّاد فضاء "ناسا" إلى "المحطة الفضائية الدولية"، لا يوجد سوى فارق ضئيل يفصل بين الشركتين، وقد يشهد عام 2018 انطلاقة تاريخية لهذه الرحلات، لذا ستخوض الشركتان سباقاً محموماً لتطوير التكنولوجيات واختباراتها.
كما يشهد مضمار الفضاء سباقاً تجارياً آخر بين "بلو أوريجن" شركة الطيران الفضائي التي أسّسها الملياردير جيف بيزوس، و"فيرجن جالاكتيك" شركة ريتشارد برانسون، اللتين تقتربان من أهدافهما في جعل السياحة الفضائية حقيقة واقعة، اعتماداً على مركباتهما الصاروخية تحت المدارية؛ "نيو شيبارد" و"في إس إس يونيتي".
ولن يكون مفاجئاً أن يتم تحقيق إنجازات استثنائية في مجال تكنولوجيا الفضاء أيضاً، حيث تركّز أبرز الأبحاث الجارية التي تمولها وكالة "ناسا" على مساعدة المركبات الفضائية غير المأهولة في "التفكير" اعتماداً على تقنيات الذكاء الصناعي وبلوك تشين، إضافة إلى نمط جديد من الملاحة الفضائية المستقلة التي تعتمد على النجوم النابضة لتحديد المواقع في الفضاء.
القمة العالمية للحكومات تستشرف مستقبل الرحلة الى الفضاء
هنا على سطح الأرض، ستنطلق جولات استكشاف الفضاء وكوكب المريخ بأسلوب متميّز آخر، على صورة أفكار وحوارات في إطار فعاليات "القمة العالمية للحكومات"، من خلال منتدى استيطان الفضاء الذي تنظمه القمة بالشراكة مع مركز محمد بن راشد للفضاء في 11 فبراير، حيث يُفتح المجال واسعاً لرصد المستجدات في مجال علوم استكشاف الفضاء مع نخبة من 21 متحدثاً من كبار مسؤولي وكالات الفضاء العالمية ورواد الفضاء والباحثين والعلماء.
وأكد سعادة يوسف الشيباني مدير عام مركز محمد بن راشد للفضاء أن منتدى استيطان الفضاء يشكل مرجعية بحثية معرفية حول التقدم في مجال استكشاف فرص العيش في كواكب أخرى، والسبل الكفيلة بتعزيز التعاون على المستوى الدولي وتوحيد الجهود مع المنظمات والمؤسسات العلمية والبحثية من أجل صياغة أفضل سياسات الاستثمار في علوم الفضاء.
وقال الشيباني إن المنتدى يستشرف الفرص والتحديات الفضائية مثل الزراعة والتنقيب عن المعادن واستكشاف الموارد في الفضاء، وغيرها من المجالات المستقبلية المرتبطة بهذا القطاع الحيوي، ويأتي تنظيم هذا المنتدى بالشراكة مع القمة العالمية للحكومات تأكيداً على توجهاتنا لنشر المعرفة ومشاركة التجارب العالمية المتميزة، والتعريف بالبرنامج الوطني للفضاء، وتجربة الإمارات في مشروع "مسبار الأمل" لاستكشاف المريخ، واستعراض توجهاتنا ومشاريعنا المستقبلية الأخرى.
رواد فضاء وعلماء ومسؤولون عالميون يشاركون في المنتدى
ويتحدث في المنتدى ثلاثة رواد فضاء هم الكندي كريس هادفيلد، وكادي كولمان رائدة الفضاء في وكالة ناسا، والدكتورة ماي جيميسون الطبيبة والعالمة ورائدة الفضاء، ضمن جلسة بعنوان لماذا تستثمر الحكومات في رواد الفضاء؟ التي يتم تنظيمها بالشراكة مع مجلة "العلوم للعموم "بوبيولار ساينس".
ومن أبرز ضيوف المنتدى: الدكتور ك. راداكريشنان، الرئيس السابق لوكالة الفضاء الهندية وسكرتير لجنة الفضاء الذي سيتحدث عن مشروع الهند لاستكشاف المريخ، ونيل دي غراس تايسون مدير القبة السماوية هايدن في المتحف الأمريكي للتاريخ، الذي سيتناول مستقبل استيطان الفضاء، وكريس كاربيري المدير التنفيذي لـ"اكسبلور مارس" الذي سيسلط الضوء على المريخ كمنصة لتقدم البشرية.
إنجازات إماراتية
يعكس المنتدى العالمي لاستيطان الفضاء الرؤية الطموحة لدولة الإمارات التي تتطلع إلى قيادة الحراك العالمي لاستكشاف الكواكب الأخرى وبلورة السياسات التي تدعم التوجهات العالمية للاستثمار في البحوث والدراسات المتعلقة بالعلوم المتقدمة وعلى رأسها علوم الفضاء.
وقد اطلع العالم لأول مرة خلال "القمة العالمية للحكومات" العام الماضي على الخطط الإماراتية الطموحة لبناء أولى المستوطنات البشرية القابلة للسكن على سطح المريخ، من خلال عروض الواقع الافتراضي. وقدّمت تجربة "المريخ 2117" محاكاة مصورة فائقة لمشروع "مدينة الحكمة" الفكرة الإماراتية الفريدة عن مدينة متكاملة تستوعب 600 ألف فرد من المقيمين الدائمين على سطح الكوكب الأحمر، إضافة إلى المختبرات والجامعات، وذلك استناداً على الدراسات والحقائق العلمية والبيانات الجغرافية الواقعية.
وتمّ دعم الخطة الإماراتية نحو "المريخ 2117" بإجراءات فعلية جريئة تمثّلت بتقديم نموذج أولي لمسبار "الأمل" في بعثة الإمارات إلى المريخ، والذي سيعمل على جمع البيانات المتعلقة بالمناخ والغلاف الجوي خلال دورانه حول الكوكب الأحمر.
وكُشف النقاب أيضاً عن خطط لبناء "مدينة المريخ"، وهي مدينة تنشأ في الصحراء لتحاكي مستعمرة على الكوكب الأحمر، وتستخدم لتطوير أنظمة الغذاء والطاقة التي يمكنها دعم حياة الإنسان على سطح المريخ. كما كشفت الإمارات عن طموحاتها في مجال الزراعة الفضائية باستخدام نخيل التمر، وهي شجرة تعيش في أقسى الظروف الصحراوية اعتماداً على القليل من الماء والمغذيات في التربة.
وتُمثّل خطة "المريخ 2117" و"مدينة المريخ" تجسيداً لرسالة "القمة العالمية للحكومات" باعتبارها بوابة عالمية نحو المستقبل، ونموذجاً مشرقاً للمساعي الحكومية للاستفادة من الابتكار والإبداع والتكنولوجيا في إيجاد حلول تعالج التحديات التي تواجهها الإنسانية.
الفضاء منجم للأرض
مع اكتشاف أكثر من 3442 كوكبا خارج المجموعة الشمسية منذ عقدين حتى الآن، إضافة الى 577 كوكباً في نظام شمسي متعدد الكواكب، يتنامى اهتمام الحكومات في أنحاء مختلفة من العالم بالاستثمار في علوم الفضاء، فهذه الكواكب قد تحتوي على مياه ومحيطات وربما مواد عضوية أو أحماض أمينية، وربما تحتوي على مقومات تتيح العيش فيها.
وحول الأسباب التي تدفع بالحكومات إلى الاستثمار في الفضاء في حين تحيط بكوكب الأرض تحديات تهدد حياة البشرية وتعيق استدامة الموارد الطبيعية، يركز منتدى استيطان الفضاء في جلساته على تقديم إجابات علمية دقيقة لأهمية الاستثمار في المريخ والفرص المتاحة أمام الحكومات لتطوير بحوثها وصقل مهاراتها الوطنية في هذا المجال.
ويُجمع الخبراء على أن الهدف من البعثات الاستكشافية المتزايدة، التثبت من المعلومات التي تشير الى أن 10 % من 1500 نيزك رصدتها وكالة الفضاء الاميركية "ناسا"، تحتوي على موارد معدنية مما يشجع على التخطيط لرحلات من أجل التنقيب في الفضاء، ومن المشاريع المرتقبة، تركيب محطات شمسية في الفضاء لتزويد الارض بالطاقة الكهربائية.