في خطوة تحاكي الواقع الفعلي وتهدف إلى تعزيز السلامة المالية والتخفيف من الاستهلاك النفطي المحلي في الإمارات العربية المتحدة، أعلنت وزارة الطاقة الإماراتية رفع الدعم الحكومي على أسعار الوقود المستخدم في النقل والمواصلات اعتبارًا من 1 أغسطس 2015. ومع استمرار سعي دول مجلس التعاون إلى إصلاح أسواقها، تأتي الخطوة الإماراتية المفاجئة لتصبح معها الإمارات الدولة الخليجية الأولى التي تقوم بالإلغاء التام للدعم والإعانات على الوقود، وتنضم بذلك إلى مجموعة من الاقتصادات الناشئة الرئيسية الأخرى كالهند وإندونيسيا والمكسيك ومصر اللواتي قامت بإلغاء الدعم على أسعار الوقود في السنوات الأخيرة. وكنا قد سبق وأن أبرزنا في تقريرنا بعنوان "تحليل ميزانيات دول مجلس التعاون الخليجي" مدى حاجة الاقتصادات الخليجية إلى المبادرة إلى تنفيذ تدابير لخفض الإعانات على الطاقة. ويشكل هذا القرار الإماراتي خطوة هامة في ذلك الاتجاه. وسوف نبرز في هذا العرض الموجز مدى الحاجة إلى تلك الإصلاحات في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
كان النفط أحد أكثر العناصر إسهامًا في الإيرادات الحكومية، ويمثل حوالي 90% من إجمالي الإيرادات المالية في بعض دول مجلس التعاون الخليجي. ومع التراجع الحاد في أسعار النفط في الفترة الأخيرة نتيجة لفائض العرض العالمي، أصبحت اقتصادات الشرق الأوسط تواجه أكثر من أي وقت مضى حاجة متزايدة إلى تقليص الإعانات. كما أن سعر التعادل النفطي، وهو سعر النفط المتوقع أن يتحقق عنده توازن الميزانية التقديرية للدولة، آخذ في الارتفاع باستمرار في الدول الخليجية المنتجة للنفط. وقد تسارع هذا مؤخرًا متأثرًا إلى حد كبير بتراجع الإيرادات النفطية ومستويات الإنفاق القياسية في معظم الاقتصادات الخليجية. ولكن على الرغم من ضغوط السوق النفطية خلال العام 2014، حافظت معظم دول الخليج على مستويات إنفاقها المالي عند مستويات قياسية غير مسبوقة. ومع أن احتياطيات العملات الأجنبية الكبيرة يمكن أن تساعد معظم هذه الاقتصادات على تفادي التعرض لصدمات فورية، غير أن استمرار الضغوط في السوق النفطية يمكن أن يجبر الحكومات الخليجية على تنفيذ إصلاحات تهدف إلى اعتماد نظام مالي جديد. وفي ظل التراجع الحاد في أسعار النفط، بدأت السلطات الإماراتية باتخاذ هذه الخطوة المنطقية نحو التخفيف من الضغوط المالية. ونحن نرى أن هذه الخطوة الإماراتية يمكن أن تشكل سابقة، ومن المحتمل أن تدفع الحكومات الأخرى إلى مجاراتها. غير أن العوامل الوطنية المحلية يمكن أن تؤثر على مدى الإصلاحات التي يمكن تنفيذها.
مع أن الوقود مخفض الأسعار كان من العناصر الرئيسية التي أسهمت في التنمية الاقتصادية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، غير أن العبء المتزايد للإعانات قد بدأ بالتأثير على الوضع المالي في هذه الدول.
تنفرد دول مجلس التعاون الخليجي بأعلى الإعانات الحكومية للفرد مقارنةً بالاقتصادات الكبرى الأخرى. على سبيل المثال، تقدم قطر أعلى إعانة طاقة للفرد في العالم، ومن المتوقع أن يصل مجموع إعانات الطاقة فيها (بعد الضريبة) إلى ما يقدر بمبلغ 6.000 دولار أمريكي للفرد في العام 2015، تمثل إعانة البنزين ما يقرب من 50% منها. كما أن إعانات البنزين في المملكة العربية السعودية والكويت تزيد عن 70% من مجموع الإعانات بعد الضريبة. أما في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى كالإمارات وسلطنة عمان، تمثل الإعانات على الكهرباء والغاز الطبيعي نسبة كبيرة من مجموع الإعانات. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تنفق دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعةً ما يقرب من 360 مليار دولار أمريكي على الإعانات بعد الضريبة، ومن المرجح أن تصل هذه الإعانات إلى 6.75% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة الجارية.
مقارنة الإعانات للفرد في دول مجلس التعاون واقتصادات كبرى أخرى
المصدر: صندوق النقد الدولي، تقرير عن حساب تكلفة إعانات الطاقة، يوليو 2015
لقد نتج عن هذه الإعانات أسعار تجزئة للوقود أقل بكثير من المستويات المتعارف عليها عالميًا. على سبيل المثال، يبلغ سعر البنزين الممتاز الخالي من الرصاص في الإمارات حاليًا حوالي 40% أقل من الأسعار السائدة في محطات الوقود بالولايات المتحدة الأمريكية، بينما نجد أن أسعار البنزين في المملكة العربية السعودية لا تتجاوز 0.15 دولار أمريكي لكل ليتر.
أسعار البنزين العالمية
المصدر: موقع أسعار البنزين العالمية GlobalPetrolPrices.com، كما في يوليو 2015
تؤدي الإعانات إلى تشوه في أنماط الاستهلاك في الأسواق. وقد نتج عن الطفرة الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي على مدى السنوات العشر الماضية وما رافقها من انخفاض في أسعار الوقود، ارتفاع كبير في استهلاك النفط في جميع دول المنطقة، حيث نما الاستهلاك المحلي للنفط في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر ودولة الكويت مجتمعةً بنسبة 5.4% سنويًا على مدى الفترة من العام 2004 إلى العام 2014، أي بما يفوق معدل نمو الاستهلاك في أسرع اقتصادات العالم نموًا كالصين والهند. كما أظهرت البيانات الصادرة من هيئة معلومات الطاقة أن متوسط استهلاك الطاقة المحلي للفرد في بلد المنشأ في دول مجلس التعاون الخليجي الست قد بلغ 529.5 مليون وحدة حرارية بريطانية للفرد في العام 2011، أي أعلى بشكل ملحوظ من متوسط استهلاك الفرد في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 191 مليون وحدة حرارية بريطانية للفرد في نفس السنة.
لقد أدى الاستهلاك المرتفع للطاقة أيضًا إلى تأثير سلبي على البيئة. وتظهر البيانات التي أصدرها معهد الموارد العالمية وأدوات مؤشرات التحليل المناخي أن انبعاثات الكربون للفرد في الإمارات وسلطنة عمان والبحرين بلغت حوالي ضعف ما هي عليه في دول مجموعة السبع في العام 2012، بينما كانت أعلى من ذلك بكثير في كل من قطر والكويت. وتصنف معظم دول مجلس التعاون بين أكبر مصادر انبعاثات الكربون للفرد في العالم. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تتأثر الصناعات ذات الحساسية للطاقة في الإمارات بالتطورات الأخيرة إلى حد كبير، يمكن أن تؤدي هذه الخطوة إلى تشجيع الأفراد على اعتماد آليات لتوفير استهلاك الوقود وزيادة استخدام وسائل النقل العام. لذلك، وإلى جانب المنافع الملحوظة المتوقع الحصول عليها نتيجة لانخفاض الإعانات على الوقود، فإن الخطوة تهدف أيضًا إلى التعامل مع التأثيرات البيئية المتزايدة.
وإلى جانب ذلك، كشفت دراسات مختلفة أن إعانات الطاقة لم تحقق أي منفعة ملموسة لشرائح المجتمع الأضعف. فقد أظهرت الأدلة التاريخية أن زيادة الاعتماد على الإعانات السخية تؤدي في الغالب إلى ثقافة انعدام كفاءة وهدر وإلى تأثير سلبي على البيئة. وعلى هذه الخلفية، يجب على الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى دراسة سبل إلغاء جميع أشكال الإعانات على الوقود الأحفوري، مع امكانية تنفيذ ذلك على مراحل.
هناك حاجة فورية إلى إلغاء الإعانات في دول مجلس التعاون. وقد صرح وزير المالية العماني درويش البلوشي مؤخرًا أن الحكومة العمانية تنوي خفض إعانات الوقود هذه السنة. وعلى صعيد منفصل، يبدو أن عدة سلطات محلية تميل نحو تنفيذ تلك التدابير، ولكنها لم تتمكن من تركيز جهودها في هذا الاتجاه في ظل المخاوف من ردود الفعل السياسية وتزايد الضغوط لمسايرة الرأي العام المحلي. وقد اضطرت السلطات في الكويت نتيجة للضغط السياسي إلى التراجع عن زيادة أسعار الوقود التي كانت قد فرضتها في مطلع العام 2015. كما أن تزايد الضعف المالي في البحرين قد دفع بصناع السياسة إلى خفض الإعانات على سلع وخدمات منها اللحوم والكهرباء. وتم اعتماد الميزانية البحرينية بعد تأخير لفترة ستة أشهر بسبب تعذر التوصل إلى إجماع. وقد ارتأت الحكومة على سبيل الحل خفض الإعانات التي تستفيد منها العمالة الوافدة، بينما يستمر المواطنون البحرينيون في الحصول على حوالات نقدية مباشرة للتعويض عن خفض الإعانات. ومن جهة أخرى، لا تزال شركات النفط التي تملكها الدولة في المملكة العربية السعودية تقدم الغاز الطبيعي والمواد الخام الأخرى بأسعار منخفضة لدعم أنشطة الصناعات الاشتقاقية في المملكة. كذلك، ولكي تتمكن الحكومات الخليجية من تفادي أي تأثير سلبي غير متكرر على المستهلكين، يمكنها تنفيذ هذه التدابير على مراحل، بما يشبه الإصلاحات التي تم تنفيذها في الهند، من أجل تخفيف التأثير على المستهلكين.
إلى جانب التدابير الهادفة إلى رفع دعم أسعار البنزين، تحتاج السلطات المحلية أيضًا إلى البدء باتخاذ خطوات نحو رفع الدعم عن أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي لضمان كفاءة استخدام الوقود الأحفوري وتعزيز الإيرادات المالية للدولة.
متوسط أسعار تجزئة الكهرباء في دول مختارة، 2012
المصدر: الاتحاد العربي لمنتجي وناقلي وموزعي الكهرباء (2013)، الوكالة الدولية للطاقة
ومع تزايد تركيز الحكومات المحلية على مشاريع البنية التحتية، يمكن أن تؤدي المستويات غير المسبوقة لإعانات الطاقة إلى إعاقة استخدام الأموال المتبقية للأنشطة التنموية. على سبيل المثال، في العام 2013، بلغت التدفقات الصادرة للإعانات بعد الضريبة في المملكة العربية السعودية حوالي 129 مليار دولار أمريكي، أي أعلى بأكثر من 50% من الإنفاق الرأسمالي للمملكة في السنة نفسها. كذلك، فإن ارتفاع الإنفاق الجاري والدفاعي قد أدى أيضًا إلى عدم كفاءة الحكومات في تخصيص الأموال للأنشطة التنموية. وفي ظل هذه المسائل المثيرة للجدل، تحتاج الحكومات المحلية إلى تسريع عملية التوحيد المالي على الرغم من الاستياء المتزايد من تلك التدابير. وكلما سارعت إلى البدء بتنفيذها، كلما كان ذلك أفضل.